الأربعاء، 29 فبراير 2012

من التالي ؟!


تتقلب الأجواء هذه السنوات كثيرا ، ربما لأني أحسها بشكل أعمق وربما لأني لم أعد اتقن إلا الشعور بتقلبات الجو ، تقلبات ترهقني منذ سنين ، أحس معها أن هناك عظاما هزيلة في طريقها إلى الرحيل .
أذكر السهرات البهلوانية التي كانت تميزني ، تميز أصدقائي و رفاق دربي
سعيد ، محمد فال ، العتيق ، محمود ، المختار ، "
هؤلاء هم عتبات حياتي ، محطات شبابي ، قبل سنوات قليلة كنت أحس ببعض العنفوان الذي يتصارع مع حقيقتي كشيخ ضعيف حين ألتقي أحدهم ، حين نسير في الشوارع الضيقة وبعضنا يسند الآخر ونحن نحاول تذكر حماقاتنا التي ابتلعتها عقود ماضية ، كنا نتبادل القصص القديمة ونحن نضحك، كان لكل منا صفة تميزه وأشياء يتقنها . كان سعيد الذي مات منذ عشرين عاما إثر مشاكل كلوية يتقن النكات فيداعبنا جميعا ويلقب كلا منا بلقب مضحك : " بوجناح / مليزم أحبيب / أقرشي / الديكراش / ، وأنا / المحكن " ، ـ
 طبعا لن تطلبوا مني أن أوزع الألقاب على اصحابها ـ حسب سعيد ـ ، لأن ذلك ليس من شأنكم كما تعلمون ـ هذا هو سعيد " المشعور " عليه رحمة من الله ورضوانه ،
جميعهم كانو أشياء مهمة في حياتي ، لكن الرقم الأول والأهم في كل شيء كانت تحتله تلك الزهرة الصحراوية التي استمر روح أريجها طول عمرنا، إنها " لالة ".
نعم هي الآن زهرة تصارع الشيخوخة مثلي تماما ، لكني لا أرى غيرها ولا يطيب لنفسي أن تشتم إلا ريحها  رغم كل الأزهار الشابة التي تنثر عبيرها على أرصفة الطرقات ، قد تقولون أنها ذابلة ولقلت حينها ـ جازما ـ أنكم لستم سوى مبتدئين في علم الأزهار ، إنها الزهرة الوحيدة الأبدية الإزهار فهي تتفتح كل يوم أمام ناظري تفتحا يشبه اليقظة الصباحية للبشر ، لاشك أني أراها تستند كل يوم على الجدار مغالبة آلام الظهر وأراها تتوكأ على عصاها وتمسك بيسراها حرقفتها، ومالمشكلة في ذلك ؟! فلا شيء يرضي بصري أكثر من مشاهدة تلك الزهرة المسنة وهي في تلك الهيئة وأحيانا أود لو كان بإمكان تلك اللحظة أن تصير أبدية كي يتسنى لي أن أرى ذلك المشهد اللاسع لخبثي المسن لما يكفي من الوقت.
 كانت زهرتي تعشق عصاها ، لقد عرفتها ذات شباب قبل اي لحظة حقيقية في حياتي وهي تستند على تلك العصا ولقد كان ذلك المشهد البري الصادح بالحياة أهم سبب في إلهامي لأن أبتكرها كجزء وجودي لا تقبل حياتي الحياة بدونه ، أعذروني فغريب على شخص في سني أن يتكلم عن الأزهار .. أخشى أن تظنوني مجنونا ستكونون مخطئين ببساطة لو ظننتموها على كل حال .
 لم أعد أهتم بشيء الآن لكني مصر على أن لا تصفوا زهرتي بالذبول حتى لو كنتم بعيونكم تظنونها كذلك .
من حظ سعيد انه مات قبل الجميع حين كان يتمتع بالشباب ولم يذق ضعف الشيخوخة وأمراضها كما عانينا ونعاني نحن.
"محمد فال" ، أو" اقرشي " كان نحيفا ورشيقا جدا وسريع الحركة ، كان يوقعنا في المشاكل ـ ونحن أطفال ـ ثم تنجيه رجلاه وسرعة جريه ..... كيف تسألني ، "كيف" ؟! ، إنه سريع جدا وخفيف الخطوات و لذلك لقبه سعيد بـ ....أممم.. لا 
! الحمد لله اني لم أقلها فلا يجوز كما تعلمون نبز رجل مات منذ سنين بالألقاب  كما أن علي أن أحافظ على خصوصيات اصدقائي سرا.
 مات محمد فال في الخمسينات من عمره في حادث سير ، هو محظوظ جدا لأنه ـ على الأقل ـ لم يمت جراء مرض السل المنهك والمؤلم .
"العتيق" أو "أمليزم أحبيب " ، المسكين مات جراء السل وأخشى يا صغاري أن يكون كل ذلك نتيجة لدعوات سعيد الذي كان يصفه بالبخل .. ورغم ذلك صدقوني لم يكن العتيق بخيلا أبدا وكل ما في الأمر أنها كانت حوارات نارية بين الاصدقاء وقارسة أحيانا ـ كهذا الحر .. لا .. أقصد كهذا الحر 
!
رحم الله محمود ، لقد كسرت جناحه ونحن نتسلق شجرات الطلح . لطالما كان ضعيفا هشا ، أصيب بأمراض في صباه وكانت عظامه ضعيفة جدا وقد التوى
ساعده بعد ذلك الكسر . كان من أكثر الناس لطفا وطيبة وقد احزنني كثيرا وفاته في العام الماضي . كان آخر الجميع موتا  وكانت صداقتي به في شيخوختي أعمق ، رحمه الله كان سيموت منذ عقود لو لم ينقذه "المختار "...
آآه .. "المختار" ..  لقد حمله لمسافات طويلة على كتفه فقد ضاعا ذات مرة في اشتداد الحر وأصيبا بعطش شديد أغمي على محمود إثره  فحمله المختار على ظهره ومشى على غير هدى . تفاصيل ذلك لا أذكرها جيدا لكني أعرف أن بعض الجمالة وجدوا جثة المختار وقد خط على الأرض حيث هو ملقى عبارة " يوجد شخص آخر " ثم غطى الجملة بدراعته ، وجد الجمالة محمودا  ملقى على وجهه في حفرة مظللة بـ "دراعة" في ما يشبه خيمة أعدها له ديـكـراش .... لا .. أقصد " المختار ".. نعم ..  رحم الله الجميع .. لقد سامحت سعيدا وجميعهم سامحوه.

لقد تغيرت حياتنا بعده وكلما فقدنا أحدنا تتغير الحياة وتعيد الأيام تلوينها بلون أميل إلى الكآبة والآن أفكر كثيرا وأخشى من التفكير و أتذكر وأخشى من تذكر الحقيقة الراسخة. أنا مؤمن تماما لكنني إنسان وهو قضاء الله فعلا ولا راد له ولكنني أشعر ومهما سيحدث فأظن أن من حقي التأكيد على أمنيتي الأخيرة في الحياة وهي أن أكون التالي ، لا شك أن ذلك سيكون مؤلما لها وتلك أنانية مني ، لكني أفضل أن تتألم مائة مرة على أن أستيقظ يوما فلا أراها تزهر في صباحاتنا المعتادة .
........... هيا يا أصدقائي الصغار ليذهب الجميع ، أنتهت قصة اليوم ، يبدو أن "لا لة" قد وصلت وهناك أشياء سأبحثها معها ، فل تسمحوا لي ببعض الخصوصية . .. من فضلكم !! . "